السمك مقابل السلاح: كيف يُبادل الحوثيون قوت اليمنيين وثروتهم الأهم مع إيران؟
"هناك سفن إيرانية في البحر ضخمة وكثيرة، تجرف أسماكنا ولا نستطيع الاقتراب منها، وحين ندخل البحر لا نجد إلا ما تبقى من الأسماك، كما لم يعد بإمكاننا الذهاب وراء الأسماك إلى المناطق العميقة، فحتى السمك هجر المناطق التي فيها حروب ومشاكل." بهذه الكلمات يلخّص ماهر محمد عبد اللّه حياة الصيادين وقطاع الصيد في اليمن.
اليمن الذي كان واحدًا من أهم مُصدّري الأسماك في بحر العرب، لم يعد قادرا على توفير السمك لسكانه حتّى وتوقف القطاع برمته عن كونه مصدرًا لانتشال شباب القرى المطلة على البحر من الفقر.
يقول المدير السابق للثروة السمكية اليمنية، حسن محمد المنصوب في حواره لأخبار الآن: "البحر هو الأم التي لا يمكن أن يستغني عنها الصياد اليمني. حتى التعليم في المناطق الساحلية ضئيل بسبب البحر، حيث ينشأ الناس على طول الساحل ويجدون في البحر الحاضن والعائل لأسرهم. البحر هو الحياة والمنقذ لهم، مما يمكنهم من بناء البيوت وتحسين ظروفهم المعيشية."
ويضيف حسن محمد المنصوب: "كنا نتمنى وكان لدينا مشروع من المشروع السادس كان يهدف إلى تعليب الأسماك وتصديرها. هذا المشروع كان سيحقق دخلًا قوميًّا هائلًا لليمن، يعادل تقريبا دخل الثروة النفطية."
على شاطئ الخوخة حيث تنتشر قوارب الصيد الصغيرة ويعاني الصيادون في ربط قواربهم نظرا لغياب مرسى آمن، التقى مراسل أخبار الآن ماهر محمد عبداللّه. ماهر هو صياد يمني أبا عن جدّ، استقل بذاته منذ 10 سنوات ورغم أنه لم يتجاوز الـ 27 عاما الا أن الحياة قد فعلت فيه أفعالها وهو الأب لثلاثة أبناء.
يقول ماهر: "كان لدي قارب وكنت أعيش حياة مريحة وكل شيء كان بأسعار معقولة. كنت أعمل وأمور حياتي تسير بشكل جيد. ولكن مع قدوم الحرب، تغير كل شيء وفقدت عيني في البحر بسبب لغم".
للأسف لم يتسبب الحوثيون في إذكاء شرارة الاقتتال في اليمن بين أبناء البلد الأفقر في الخليج العربي فحسب، بل قدموا ثرواته إلى حليفهم السياسي والعسكري إيران. في هذا التحقيق نكشف كيف تسمح ميليشيات الحوثي للسفن الإيرانية بتجريف قاع البحر في اليمن مقابل الدعم العسكري والسياسي لتأبيد الحرب الأهلية التي تنهش اليمن لما يزيد عن عشر سنوات.
انهيار قطاع الصيد
في مقابلة مع أخبار الآن، يقول الناشط الحقوقي اليمني مكين العوجري: "لا تسمح الجماعة بتواجد أي سفن في المنطقة سوى السفن الإيرانية، وهذا يدل على أن هناك تعاونًا كبيرًا بين الحوثيين وإيران". ويواصل: منذ عام 2016 وحتى الآن، تواصل السفن الإيرانية انتهاك السيادة اليمنية بشكل يومي وجائر من خلال تجريف الأسماك. هذا العمل يعتبر انتهاكاً صارخاً لسيادة وأمن الدولة. السفن الإيرانية أثرت بشكل كبير على القطاع السمكي في اليمن، مما أدى إلى ندرة العديد من أنواع الأسماك وجعلها غير متاحة للصيادين اليمنيين. التجريف المكثف في البحر الأحمر ومحيط أرخبيل سقطرى تسبب في تقليص كميات وأنواع الأسماك التي يمكن الوصول إليها،"
في الوقت الذي تظهر فيه البيانات الرسمية أن صادرات الأسماك اليمنية قد هوت من 191 مليون دولار في 2014 إلى 1.2 مليون دولار فقط في 2018، حققت إيران لاحقا ومنذ دخولها المياه اليمنية والصومالية خصوصا قفزة في إنتاج السمك. مما أثر إيجابا على الميزان التجاري. تأثير كان بالغ الأهمية في الحقيقة إذا تراجعت واردات الأسماك من 181 مليون دولار في 2017 إلى 28 مليونا سنة 2021.
انهيار صادرات الأسماك اليمنية بعد 2015. المصدر: وزارة الثروة السمكية اليمنية
يبدو اليوم وكأن اليمنيين يطوون صفحة ازدهار قطاع السمك بعد أن احتل في سنوات سابقة المرتبة الثانية من حيث الصادرات اليمنية بعد النفط والغاز، مساهماً بنسبة 15 % من الناتج المحلي الإجمالي اليمني، وموفرًا فرص عمل لأكثر من نصف مليون فرد، يدعمون بدورهم 1.7 مليون شخص.
بات العاملون في قطاع الصيد ومن بعدهم ملايين من اليمنيين لا يحصلون على الغذاء الكافي ويصعب عليهم شراء السمك. الثروة التي كان يُظن أنها لن تنضب قد شحَّت بالفعل، وهو ما دفع وزارة الزراعة والري اليمنية إلى اتخاذ قرار وقف تصدير منتجات الأسماك والأحياء البحرية الطازجة في 20 فبراير 2023 بُغية توفيرها للأسواق المحلية. جاء حينها قرار الوزارة بسبب ما تمر به البلاد من شح في الإنتاج السمكي.
في المقابل وقبل ذلك بعدّة أيام فقط أعلن رئيس منظمة الثروة السمكية الإيرانية حسين حسيني أن قيمة صادرات الأسماك الإيرانية بلغت أكثر من 500 مليون دولار سنة 2022 وأن بلاده تستهدف رفع قيمة الصادرات إلى 2 مليار دولار بحلول 2026.
جاء هذا التطور نتيجة خطة عمل بدأتها إيران منذ سنوات كانت تسعى من خلالها إلى رفع إنتاجها السمكي وتعزيز حضور أسطولها غرب المحيط الهندي، إذ افتخر رئيس منظمة الثروة السمكية الايرانية في 2019 بأن بلاده باتت تحتل المرتبة الأولى من حيث أسطول الصيد في غرب المحيط الهندي وهو ما مكنهم فعلا من تحقيق طفرة في إنتاج السمك من حوالي نصف مليون طن قبل 2015 الى حوالي 1.5 مليون طن وفق التقديرات الحالي.
بينما كانت إيران ترفع إنتاجها من السمك بسيطرتها على الجزء الغربي من المحيط الهندي كانت تقدم ذلك كنجاح اقتصادي، نجاح يخفي في الحقيقة انتهاكها سيادة دول المنطقة غير المستقرة أمنيا واجتماعيا، وبينما كانت توفر الغذاء لمواطنيها وتتوجه نحو التصدير كان مواطني اليمن يتعرضون لواحد من أسوأ أزمات الجوع في العالم.
تعمّد تجويع اليمنيين
تسبب الصراع الدائر في اليمن في حدوث أزمة إنسانية غير مسبوقة عمَّقت من أوجاع البلد الأفقر في جزيرة العرب حتى بات اثنان من كل ثلاثة يمنيين يعانون نقصًا حادًا في الغذاء وفق منظمة الصحة العالمية. تقول رجاء محمد، مواطنة يمنية وأم لخمسة أبناء: "كنا نعيش حياة لا بأس بها قبل الحرب. صحيح أن الفقر كان موجودًا، لكننا كنا نتلمس الحياة حلوة، هناك أمان واستقرار، وأولادنا يخرجون للدراسة. أما بعد أن جاءت الحرب، نزعت كل شيء حلو فينا".
رجاء هي واحدة من ملايين النساء في اليمن ممن تؤرقهن اليوم المعيشة الصعبة والوصول إلى الغذاء. فالهبة التي منحهم إياها الله تُسرق منهم اليوم في عمق البحر بعيدًا عن الأعين ودون أية قيود.على الرغم من أن رجاء تعمل كمدرسة، إلا أنها باتت غير قادرة على شراء السمك أكثر من مرة شهريا بسبب غلاء الأسعار وعدم توفره كما في السابق. لتجد المرأة الثلاثينية نفسها اليوم مرهقة من تبعات الحرب الصعبة التي أخذت منها زوجها في 2016 وتواصل سرقة قوت أبنائها منها اليوم.
تقول: "قبل الحرب، كانت الأسماك مثل الديرك والشروخ و الخلخل متوفرة وأحيانًا نحصل عليها مجانًا من الصيادين، مما وفر لنا تغذية صحية وحماية من الأمراض. الآن، بسبب الغلاء الناجم عن الحرب، أصبح الحصول على الأسماك صعبًا، مما أدى إلى معاناة الكثيرين من نقص اليود. الأطفال ملوا من الوجبات المتكررة كالطماطم والبطاطس ويتمنون تناول الأسماك. الصيادون لم يعد بإمكانهم تقديم الأسماك مجانًا بسبب ارتفاع تكاليف البترول والثلج. كل هذا نتيجة الحرب التي أثرت سلبًا على حياتنا."
أي دور يلعبه الحوثيون؟
تشير التقديرات إلى أن المخزون السمكي اليمني غير المستغل يبلغ حوالي 800 ألف طن، في حين أن أقصى كمية تم اصطيادها بلغت 256 ألف طن سنة 2004. ورغم منافسة الصينيين والهنديين والباكستانيين، نجحت إيران بمعية الوجود العسكري للحوثيين في السيطرة على المنطقة الاقتصادية الخالصة لليمن.
وفي الوقت الذي كانت رحى الحرب تدور لتطحن اليمنيين وتشردهم من قراهم وتمنع عنهم إمدادات الغذاء، ظلت مئات سفن صيد الأسماك الإيرانية تخرج من الموانئ الإيرانية الجنوبية وتعود محملة بأطنان السمك اليمني. الحوثيون، ذراع إيران في اليمن، كانوا قد منحوهم بالفعل موطئ قدم لم يكن ممكناً لهم من قبل.
يتحدث حسن محمد المنصوب عن دور جماعة الحوثي في ما تقوم به السفن الإيرانية قائلاً: "الحوثيون لهم يد كبيرة في استدعاء السفن الإيرانية وحمايتها بالقوارب والزوارق البحرية على مسافة بعيدة جداً حتى لا يقترب منها أحد. الحوثيون يساعدون السفن الإيرانية بالدخول إلى المياه الإقليمية ويحمونها ولا يسمح لأي صياد بالاقتراب منها".
ذاك في البحر أما على الأرض فقد فرض الحوثيون في المناطق التي سيطروا عليها حصارًا على الصيادين المحليين، رغبة في إحكام قبضتهم على كل شيء في محاولة لتركيع السكان ومن بينهم الصيادين.
في مكان منزوي في منطقة الخوخة، التقينا أحد هؤلاء الصيادين الذي هرب من منطقة سيطرة الحوثيين قبل سنة أملاً في حياة أفضل وإنقاذًا لحياته وحياة عائلته. اضطر خالد، كما سنسميه، إلى ترك قاربه وشراء قارب آخر رغم الظروف الصعبة التي يعيشها رفقة عائلته.
يقول الصياد خالد: "قبل دخول الحوثيين، كنا نصطاد سمكا بقدر الفلوس التي لدينا. نقوم بشراء الديزل وندخل للبحر نصطاد لمدة خمسة عشر يومًا أو عشرين يومًا ونعود. أما الآن، الحوثيون يعطونا دبة بترول واحدة فقط و يحاصروننا. بهذه الدبة لا تستطيع الدخول إلى البحر أو الخروج منه، ولا نستطيع عمل شيء، لأنها قليلة".
يؤكد حديث خالد مدير مديرية المخا التابعة للحكومة الشرعية سلطان عبد الله محمود الذي يرى أن الحوثيين يعبثون فعلياً برزق اليمنيين بقدر ما تطاله أيديهم. يقول محمود في حديثه لأخبار الآن: "المليشيا الحوثية قد أرهقت الشعب اليمني بأكمله، ومن ضمنه فئة الصيادين. هي تريد تجويع الناس بشكل عام. باتوا يعطون الصيادين كمية بسيطة من الوقود، حتى لا يدخلوا إلى أعماق المياه الإقليمية اليمنية ويحصلوا على الصيد الوفير ويعودوا إلى أسرهم ليعيشوا بكرامة. لكنهم يعطون كمية بسيطة بحيث لا يتمكنون من الصيد في مناطق بعيدة، وإذا لم يحصلوا على صيد فهذا لا يهمهم. يجوعون ولا يهمهم، وهذا هو أسلوبهم في تجويع أفراد الشعب اليمني، ومن ضمنهم فئة الصيادين".
في الواقع، لا يضر تقييد كمية الديزل برزق الصيادين فحسب، بل قد يكون مميتًا في حال نفاذ الكميات وهم بعيدون عن الشاطئ. يروي خالد حادثة مأساوية تعرض لها قارب صيد منذ سنتين بسبب نفاذ الديزل قائلاً: "ذات مرة، فقدنا ناس في البحر، دخلوا للصيد ولم يعودوا. دخلنا نحن نبحث في البحر، ووجدنا القارب مقلوبًا، ولم نجدهم. البترول نفد، يعني كله بسبب دبة البترول، لأنها أحيانًا لا ترجعك من البحر. تجلس في البحر بلا حول ولا قوة".
انتشار الأسطول الإيراني في المنطقة
دائما ما كانت الحرب وبالا على الشعوب وأسوأ ما يمكن أن يحدث لها وحرب اليمن لم تختلف في ذلك إذ جلبت معها البؤس والجوع وشباك الصيد بالجر الايرانية إذ يظهر أن أيران بالفعل قد تركت صياديها يحرثون البحر دون هوادة. وقد احتج حتى الصيادون داخل إيران عن ذلك سنة 2023 وقد تحدث حينها ممثل منطقة هرمزكان في البرلمان الإيراني، حسين رئيسي، عن أن الصيد بشباك الجر بالقوارب الطويلة التقليدية وأدوات الصيد المحظورة يتوسع في مياه هرمزكان.
بداية من 2019 وإلى منتصف سنة 2020، ومع الأزمة الاقتصادية التي خلقتها جائحة كورونا، تم تحديد أسطول كبير من سفن الصيد الإيرانية يعمل بشكل غير قانوني في المياه الصومالية واليمنية. هذه العملية تم رصدها في تقرير مفصل نشرته منظمة 'غلوبال فيشينغ ووتش' ومنظمة 'تريغ مات تراكنج'. وقد خلصتا إلى أن هذه العملية قد تكون واحدة من أكبر عمليات الصيد غير القانوني في العالم.
عن أسباب ظهور هذا الأسطول في تلك الفترة بالتحديد يرجع مدير عام مديرية المخا سلطان عبد الله محمود ذلك إلى اتفاق ستوكهولم في نهاية عام 2018 قائلا: "بعد اتفاق ستوكهولم المخزي والمضر بالشعب اليمني تماماً، حصلت المليشيات الحوثية، وبالتالي إيران، على الضوء الأخضر للتحرك في مياه البحر الأحمر اليمني بطريقة غير مباشرة. ما إن دخل الاتفاق حيز التنفيذ في عام 2019 حتى بدأت إيران تعتبر نفسها الدولة المستفيدة من هذا الاتفاق، مما أتاح لها التحرك في مياه البحر الأحمر اليمني بشكل أكثر حرية مستغلة الثروة السمكية اليمنية دون هوادة."
يذهب الناشط مكين العوجري إلى تأكيد أن هذا التواجد يخدم كذلك المصالح السياسية والعسكرية لإيران في المنطقة من خلال الحوثيين قائلاً: "الشيء الآخر أيضاً الذي يميز هذه السفن أنها تتواجد في حيز يسيطر عليه جماعة الحوثيين أو تحت سيطرة ميليشيا الحوثي. وهذا ما يجعلها هي الوحيدة المتواجدة هناك.
ويواصل: "لا تسمح الجماعة بتواجد أي سفن في المنطقة سوى السفن الإيرانية. وهذا يدل على أن هناك تعاونا كبيرا بين الحوثيين وإيران. طبعاً عملية الصيد هي بشكل دائم تقوم بها السفن الإيرانية. مفيش التزام بموسم معين أو محدد، هي تعمل بشكل عشوائي لا تلتزم بمعايير أو مواسم، أو أي شيء يحافظ على الثروة السمكية، أو حتى أنه يحميها من الانقراض".
بماذا يخبرنا تحليل بيانات تتبع السفن الإيرانية؟
بالتوازي مع ارتفاع إنتاج إيران من السمك، حاولنا أن نتتبع آثار ذلك بناءً على مدى انتشار أسطولها في البحر. بتنظيم وتحليل بيانات تتبع السفن عبر موقع 'غلوبال فيشينغ واتش'، حصلنا على صورة أوضح عن كيفية انتشار أسطول الصيد الإيراني في المنطقة، وخاصة في اليمن والصومال، اللتان تعيشان حالة من عدم الاستقرار والحرب الأهلية المتواصلة
تظهر البيانات التي ترتكز أساسًا على تقنية نظام التعرف التلقائي (AIS) الذي يقوم على تتبع السفن وتبادل البيانات فيما بينها، أن أكثر من 313 سفينة صيد إيرانية كانت تصطاد بأمان وحرية في المياه اليمنية بين 2020 ومنتصف 2024. في الحقيقة، بدا الأمر كأنه أسطول إيراني موجه نحو الخارج، ظهر من العدم ليتوجه إلى نهب الثروات السمكية لبلدان الجوار، أساسًا اليمن والصومال، اللتان تواجهان ظروفًا أمنية غير مستقرة وغير قادرتان على مراقبة حدودهما البحرية.
تصطاد معظم السفن الإيرانية التي تحققنا من مسارها على مسافة تزيد عن 550 كلم عن شواطئ اليمن حول أرخبيل سقطرى، وهي الأماكن التي صار من الصعب على الصيادين اليمنيين المحليين الوصول إليها خصوصًا بعد الحرب. مكان قصي يجعل من متابعة هذه السفن على أرض الواقع ومحاسبتها أمرًا مستحيلًا لخفر السواحل اليمني الذي رفض في الواقع التعليق على الموضوع.
يعلق مدير عام مديرية المخا سلطان عبد الله محمود: "فعلاً، الزيادة في عدد السفن والصيد الإيراني في المياه الإقليمية اليمنية، وخاصة في المنطقة الشرقية كما كان سابقًا، استخدام الجرف الجائر للأحياء البحرية يؤدي إلى نفوق الأسماك وعدم تواجدها. هذا سيؤثر حاليًا ومستقبلاً بشكل كبير بعدم وجود الأسماك التي تفضل العيش في هذه المنطقة نتيجة الجرف الجائر. إيران تضرنا بحريًا وجويًا وبريًا في كل اتجاه".
أسطول إيراني غامض
وفقًا لتقارير دولية، تواجه عملية تحديد هوية السفن الإيرانية ووضعها القانوني تحديات كبيرة بسبب نقص المعلومات العامة والشفافة حول السفن المصرح لها. ورغم أن إيران، كعضو في اللجنة الدولية للتونة في المحيط الهندي، تقدم قوائم سنوية بالسفن المصرح لها، ولكن هناك جهود متعمدة للحد من المعلومات المتاحة. من بين 1311 سفينة إيرانية مدرجة في قائمة اللجنة، تم تحديد 11 سفينة فقط بأسمائها الفردية، بينما يتم تحديد الباقي بكلمة "سفينة" ورقم تعريفي، مما يعوق رصد الأنشطة غير القانونية.
ولكننا بتقاطع المصادر والسجلات نجحنا في جمع معلومات من قبيل الأسماء وأرقام النداء التي تشير كلها إلى إيران على اعتبار أنها تبدأ بـ 422، بالاضافة إلى طول السفن وعرضها والتي تتراوح بين 21 و 68 مترا. كذلك تمكنا من أخذ فكرة عن نوعية الشباك المستخدمة وإن لم توفر تحديدات دقيقة عن جل الأسطول إلا أننا وجدنا أن غالبيتها تقول أنها تستعمل شباك جرف سطحية ثابتة ومتحركة،.
لئن كانت هذه الشباك تستهدف بالأساس أسماك التونة فإنها تعتبر غير انتقائية ويمكن أن تتشابك مع الأنواع المحمية مثل أسماك القرش والسلاحف وأنواع أخرى محمية. نتيجة لذلك، اتفق المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة على حظر شباك الجرف العائمة في أعالي البحار التي يزيد طولها عن 2.5 كيلومتر، وتم تنفيذ عدد من الاتفاقيات، بما في ذلك في المحيط الهندي. فيما لا يعرف إن كانت إيران تحترم فعلا هذه الاتفاقية في ظل شكاوى الصيادين اليمنيين.
نقص مثل هذه المعلومات وغيرها عن السفن الإيرانية يجعل من الصعب جدًا حتى على الأطراف الموكولة لها عمليات الرصد والمراقبة والمتابعة على غرار اللجنة الدولية للتونة في المحيط الهندي، والدول الساحلية، والمجتمع الدولي الأوسع تحديد حالة تراخيصها، مما يجعل جهود المحاسبة معقدة للغاية ما لم يتم تفتيش السفن فعليًا وتحديد أرقام التراخيص ووثائق التسجيل.
يقول مسؤول الثروة السمكية السابق حسن محمد المنصوب: "في الماضي، كنا نعمل بتراخيص للصيد وكان لدينا عدة قوارب تشارك مع البحرية اليمنية في حماية مناطق الاصطياد من السفن التجارية القادمة من الخارج. كنا نلتزم بشروط وقوانين وزارة الثروة السمكية في اليمن. أما الآن، تأتي السفن بدون تراخيص، تقوم بجرف عشوائي للشعاب المرجانية وتفجيرها، مما يؤدي إلى تدمير البيئة البحرية وتلوثها، ويجعل الأسماك تهرب من مناطق الاصطياد."
أنشطة مشبوهة وتسكع بحري
حددنا مجموعة من أكثر السفن التي قضت ساعات في المياه اليمنية على مدار السنوات الأربع الأخيرة ، لاحظنا أن جميعها يخرج من السواحل الجنوبية لإيران. نجد على سبيل المثال سفينة "ساحيل" بطول 67 مترا وعرض ستة أمتار. لا تتوفر عنها معلومات أكثر عدا كونها في الوقت الذي تم تحديد 130 نشاط صيد لها بين 2020 و 2024 بين ايران وعمان واليمن والصومال فقد تم تسجيل 216 حادثة تسكع لها منها 45 باليمن
ويعني التسكع البحري بقاء السفينة في منطقة معينة في البحر لفترة من الوقت دون التحرك بشكل منتظم أو دون القيام بنشاط محدد. قد يكون ذلك لأسباب متعددة مثل الطقس السيئ أو الصيد غير القانوني او التهريب أو أسباب أخرى مثل انتظار الدخول لميناء.
في الواقع يظهر هذا السلوك رائجا جدا بين سفن الصيد الإيرانية إذ بالنظر للبيانات التي فحصناها فإن التسكع في الغالب أكثر من نشاطات الصيد المؤكدة للسفن الإيرانية ونظرا لأنها لا تتوقف في موانئ يمنية فإن ذلك يزيد من احتمالية تورطها في أعمال الصيد غير القانوني وحتى التهريب.
يعلق الناشط الحقوقي مكين عوجري: هذه السفن في الأساس تعمل لأغراض عسكرية، تخدم النظام الإيراني وتخدم أيضاً جماعة الحوثي. إيران تهدف إلى الاستيلاء على هذه المنطقة وتكون لها نفوذ عسكري وتجاري من أجل الوصول إلى القرن الأفريقي. طبعاً التواجد الكثيف لهذه السفن في البحر الأحمر يخدم هدفين: هدف عسكري وهدف اقتصادي. هي عمليات تبادل منافع بين الحوثيين وإيران؛ الأسماك مقابل السلاح.
ويواصل: "في عام 2016، كانت هناك سبع إلى ثمان سفن صيد إيرانية في المياه اليمنية، وفي عام 2019 ارتفعت إلى مائتي سفينة وقارب صيد. هذا يدل على أن عملية الجرف والاستراتيجية الإيرانية في تجريف الأسماك بشكل غير قانوني مستمرة و ستتضاعف خلال الفترات القادمة، وكذلك يدل على أن التعاون العسكري وتهريب السلاح سيتصاعد بشكل لافت"
الاشتباه في أن كل سفينة صيد قد تكون متورطة في تهريب السلاح زاد من التضيقات التي يتعرض لها الصيادون اليمنيون وفيما يظهر أن السفن الايرانية لم تكن تتعرض لمضايقات فإن اليمنيين للأسف كانوا في مرمى النيران والألغام خاصة بعد عسكرة خليج عدن من قبل الحوثيين بعد السابع من أكتوبر كما يؤكد ذلك تاجر السمك عبد الغفور الشيباني الذي التقيناه في محافظة تعز.
يقول الشيباني:" أعمل في مجال الأسماك منذ 2010، الذي جعلني أختار العمل في الوجبات البحرية لسببين: الأول، انعدام المطاعم المتخصصة بالمأكولات البحرية داخل تعز، وثانيًا لتوفر الأسماك ورخص أسعارها. ولكن كل ذلك تغير الآن. كان لدي مطاعم مثل مطعم الشراسني والشيباني في شارع الستين، والآن مقفل بسبب الحرب."
ويواصل: "بدأت التغيرات مع بداية الحرب مع فلسطين، أوجدت الحرب سفنًا في البحر مثل السفن الإيرانية في مدينة الحديدة، أدت إلى انعدام كثير من الأسماك مثل الشروخ الذي لم يعد متوفرًا في مدينة تعز واختفى نهائيًا. كما ارتفعت الأسعار جراء منع الصيادين أيضًا من دخول البحر. كنا في السابق نوفر الأسماك ونشتري أسماك مثل المرجان والجمبري، وكان الكيلو بـ 6000 ريال يمني، والآن مع دخول السفن ارتفعت الأسعار ووصل سعر الكيلو إلى 25000 ريال يمني
الجرف العشوائي والتدمير البيئي
يقول المدير السابق للثروة السمكية في اليمن حسن محمد المنصوب: "تقوم السفن الإيرانية باستخدام معدات ضخمة مثل السلاسل الكبيرة والونشات" التي تنزل إلى أعماق البحار وتقوم بتفجيرات داخل البحار. هذه التفجيرات تقتل بعض الأسماك وتنسف الشعاب المرجانية. تأخذ السفن الإيرانية الأسماك الصخرية التي كان اليمنيون يصدرونها، مثل الشروخ وأنواع أخرى من الأسماك التي تعيش تحت الشعاب المرجانية. تُحدث هذه التفجيرات دمارًا كبيرًا للشعاب المرجانية، مما يتسبب في هروب الأسماك ووقوعها في الشباك الضخمة التي تحيط بالشُعب المرجانية. لا تسمح السفن الإيرانية للصيادين اليمنيين بالاقتراب منها، مما يضمن لهم السيطرة الكاملة على موارد الصيد في المناطق المستهدفة."
ويواصل المنصوب: "في المقابل يستخدم اليمنيون قوارب الفيض معظمها صغيرة، ما فيش عندنا قوارب كبيرة، ما فيش عندنا معدات تلويث للتجارة، عندنا أكبر قارب يكون طوله 10 متر الى 15 متر. القوارب الكبيرة تستهدف الأسماك الأفضل مثل الديرات، السخلة، الجحش، البيض، والعربي". ولكنه يستدرك ويقول أنه هذه الأنواع اليوم صارت شحيحة جدا فيما أن أنواع أخرى مثل الشروخ والحبار والجمبري أصبحت شبه معدومة رغم اعتماد اليمنيين بصفة شبه كلية على السمك نظرا لغلاء أسعار اللحوم"
يؤكد مكين العوجري هذه المعطيات مؤكدا إن السفن الإيرانية تقوم اليوم بانتهاكات في المياه اليمنية قائلاً: "عملية الصيد هي بشكل دائم تقوم بها السفن الإيرانية. ليس هناك التزام بموسم معين أو محدد، هي تعمل بشكل عشوائي لا تلتزم بمعايير أو مواسم، أو أي شيء يحافظ على الثروة السمكية، أو حتى أنه يحميها من الانقراض. أنواع الشباك التي تستخدمها السفن الإيرانية كبيرة وتجرف الأسماك الصغيرة والكبيرة، كل الأنواع دون مراعاة لأي شيء".
مستقبل قاتم لصيادي اليمن
يتحدث حسن محمد المنصوب عن غياب الرقابة ومعاناة الجهات الحكومية في اليمن في فرض الرقابة على هذه السفن مقارنة بالماضي قائلاً: "بالنسبة للوضع السابق كان عندنا نعمل على تراخيص، كان لنا أكثر من قوارب 3 أو 4 قوارب في الميناء الصياد ونشارك مع البحرية اليمنية بحماية أماكن الاصطياد من السفن التجارية التي تأتي من الخارج و حتى من تأتي من السفن أو سواء من الصيادين يأخذون تراخيص من المكتب و التراخيص لفترة محددة و بشروط معينة بحسب الشروط و القوانين واللوائح التي تنظمها وزارة الثروة السمكية في اليمن."
ويتابع: "أما الآن تأتي السفن بدون تراخيص، تعمل جرف عشوائي للشعاب المرجانية، تعمل تفجيرات في البحر، تفجر الشعب المرجانية، بحيث يصطاد نوع من الأسماك ويرمي الباقي في البحر، يعمل أيضا تلوث بحري بما يجعل الأسماك تنفر وتهرب من مناطق الاصطياد".
في الوقت الذي نرى فيه تحركات دولية من جانب الصومال مثلا ضد السفن الايرانية على غرار احتجاز صيادين ايرانيين في مارس آذار الماضي، تظل الجهود اليمنية غير مرئية ولا يتم التفاوض بخصوص هذا الملف ديبلوماسيا حتى.
يعلق مدير عام مديرية المخا سلطان عبدالله محمود: التحركات موجودة ولكنها بسيطة. على مستوى الوزارات ذات الاختصاص، مثل وزارة الثروة السمكية ووزارة الثروة الخارجية. هذه الوزارتين المعنيتين في هذا المجال. فبالتالي تحركاتهم ليست بالشكل الكافي. أستغل هذه الفرصة وأطالبهم بأن يكون تحركهم أكبر للحفاظ على الثروة السمكية اليمنية التي أعتبرها أهم من البترول وأي مصادر أخرى."
في بلد كان يعتبر أحد أهم مصدري الأسماك في المنطقة، يعاني اليوم الصيادون اليمنيون وأسرهم من الجوع والفقر، وهم يشاهدون ثرواتهم السمكية تُجرف بعيدًا عنهم. ومع الحرمان يتمكن منهم العجز في تغيير الوضع القائم المحكوم بالسلاح والثأر. الصيد غير القانوني و التجريف العشوائي للشعاب المرجانية والأسماك الثمينة من قبل السفن الإيرانية، بالتعاون مع الحوثيين، يهدد مستقبل الصيد والثروة السمكية في اليمن. كما أن استمرار هذا الوضع ينذر بمزيد من الفقر والجوع لصيادي اليمن وأسرهم، وهو ما يتطلب تحركاً دولياً عاجلا لحماية حقوقهم وثرواتهم.
ملاحظة: حاولنا التواصل مع المنظمة الإيرانية للثروة السمكية للحصول على تعليق بخصوص ما توصلنا إليه ولكننا لم نتلق أي رد.
كما أن وزارة الزراعة والري والثروة السمكية وعلى غرار خفر السواحل اليمني لم يتجاوبا مع محاولاتنا في الحصول على تعليق بخصوص انتهاكات السفن الإيرانية للمنطقة الاقتصادية الخالصة لليمن.