البصرة تنزف نفطاً ودماً .. كيف غابت أموال المنافع الإجتماعية عن إسعاف الضحايا ؟
"جعفر" تُوفيَ قبل أن يصل للجامعة.. و"ابتهال" تبحث عن علاج والسبب شركات النفط
أخبار الآن | البصرة - 27 أغسطس 2024
في هذا التحقيق نسلط الضوء على قريتي "النشوة" و"نهر عُمر" كنماذج للقرى المتضرر مواطنيها من انبعاثات حقول الغاز، ونكشف مدى التزام الشركات الحاصلة على حق تطوير تلك الحقول فنياً، بالمسؤولية المجتمعية الملقاة على عاتقهم
مشاري يفقد أفراد أسرته واحداً تلو الأخر
إصابات سرطانية متتالية تلحق بأفراد أسرة مشاري صلاح واحداً بعد الأخر، البداية كانت مع إصابة شقيقته ثم عمه، وكلاهما توفى، وأخيرا زوجته التي اكتشف إصابتها بسرطان المعدة اللمفاوي عام 2020 إثر تعرضها لوعكة صحية قوية.
لم يدخر الرجل الأربعيني ديناراً واحداً لعلاج زوجته، باع جميع ممتلكاته وقرر السفر إلى إيران لعلاجها هرباً من ذلك المصير المُتكرر، وعاد بعد شفائها لمسكنه في قرية النشوة والتي تقع شمال مدينة البصرة العراقية، تحديداً على بعد 60 كم من مركزها ، ولكن بعد مرور عام واحد فقط اكتشفوا جميعاً عودة السرطان بجسدها مُجدداً ولكن هذه المرة في الدم . واليوم يقف مشاري عاجزاً بعدما أنفق الغالي والنفيس ولم يتبق معه شيئاً ينقذ به حياة زوجته التي تصارع الموت في اليوم الواحد عدة مرات .
على بُعد أمتار قليلة من "مشاري" يعيش نزار عبد الله، الذي فُجع هو الأخر بخبر إصابة زوجته "ابتهال عادل" بالسرطان، شأنها شأن المئات من أبناء المنطقة، قضى "نزار" سنوات من العلاج قضت على كل أمواله وممتلكاته بعد المراجعات المستمرة للمستشفيات وجرعات الكيماوي التي جعلتهما في قبضة الموت والدمار معنوياً وماديًا على حد تعبيره .
تقارير طبية كثيرة تكتظ بها حقيبة ابتهال، تخرج بها في كل مرة برفقة زوجها، بحثاً عن أي سبيل لإنقاذها داخل مركز علاج الأورام الوحيد الموجود في المدينة والذي يقع على بعد تقريبا 50 دقيقة بالسيارة.
يذهبا بتلك الأوراق هنا وهناك لعل أحد ينقذهم ويلحظ الجملة التي دونها الأطباء في مستشفى الصدر التعليمي التابعة لوزارة الصحة العراقية، أسفل تلك التقارير والتي حملت إدانة واعتراف واضح بأن سكن ابتهال في منطقة تتعرض للتلوث نتيجة المحروقات النفطية قد تكون السبب في إصابتها بالسرطان .
ماذا يحدث في النشوة ؟
انبعاثات حقل مجنون تقضي على الأخضر واليابس
مئات القصص المتشابهة لأفراد مصابين بالسرطان، قُدر لهم أن يعيشوا في قرية النشوة حيث يقع هناك حقل مجنون النفطي على بُعد 60 كم من مركز مدينة البصرة، وهو أحد أكبر حقول النفط في العالم إذ يُقدر احتياطه بما يقارب من 38 مليار برميل وفقاً لأرقام وزارة النفط العراقية .
حال الأهالي في قرية النشوة يذكرنا بحال الشاب "علي حسين جلود" أبن قرية الرميلة الشمالية، الذي وافته المنية عن عمر يناهز 21 عاما إثر إصابته بسرطان الدم، حيث كان يسكن في تلك القرية التي يقع بها حقل نفط تعمل فيه شركة "بريتش بتروليوم"، وأحدثت قصته ضجة إعلامية كبيرة بعدما اتهم والده الشركة بأنها السبب في وفاة نجله وقرر مقاضاتها بسبب المستوى العالي من الملوثات المسببة للسرطان الناجمة عن عمليات حرق الغاز التي تقوم بها الشركة.
وتُعد قرية النشوة وهي إحدى قرى بلدية النشوة البالغ عدد سكانها 40 ألف نسمة ، واحدة من عشرات القرى المتضرر ساكنيها من انبعاثات حقول النفط المحملة بغاز الميثان السام، والسبب في ذلك هو أن البصرة تنتج قرابة 80% من النفط الذي يصدره العراق وتستحوذ عملية إنتاجه على معظم الميزانية السنوية التي تقرها الحكومة العراقية ولكن أبناء البصرة و ناشطيها يرون بأن لعنة النفط وخلال العقود الثلاثة الأخيرة استنزفت أجسادهم.
في هذا التحقيق نسلط الضوء على قريتي النشوة ونهر عمر كنماذج للقرى المتضرر مواطنيها من انبعاثات حقول الغاز، والتي يصل عددها إلى 15 حقلاً من أصل 77 حقلاً معروفاً، منها 10 حقول مُنتجة ما زالت تنتظر التطوير. ونكشف مدى التزام الشركات الحاصلة على حق تطوير تلك الحقول فنياً، بالمسؤولية المجتمعية الملقاة على عاتقهم ونكشف مصير أموال المنافع المجتمعية التي من المفروض إنها وُضِعت لتقليل معاناتهم وعلاجهم لكنها ذهبت الى مصير مبهم لم يغنِ شيئا من أوجاع أبناء تلك القرى، وأخيراً نضع طلبات واحتياجات المواطنين البسطاء العاجلة، أمام أعين الجهات المسؤولة وصناع القرار علنا نساهم في إنقاذ حياتهم حتى لا يلقون نفس مصير "علي حسين جلود" وغيره.
جولة صغيرة أجريناها داخل تلك القرية كانت كفيلة بالتعرف على ملامح المرض التي أرتسمت على ساكنيها، كانت سماء القرية مُلبدة بغيوم الغاز المنبعث من الحقل ، بينما يعيش أبناء القرية بين الفقر المدقع الذي أجبرهم على البقاء في هذا المكان ، وأمراضهم الناجمة عن الغازات المنبعثة التي تمنعهم أحياناً من الخروج إلى الشارع خوفاً من الاختناق .
هؤلاء كان من بينهم أيضاً عزيز جمعة الذي أخذ يلف داخل القرية مِغطي وجهه بقطعة قماش لعلها تحميه من الأدخنة المنبعثة ، وحاملاً معه أوراق طبية تثبت إصابته بالسرطان ، كان عزيز الذي يبلغ 56 عاماً يعمل فرد أمن داخل الحقل نفسه، مما جعله على تماس مباشر مع انبعاثاته السامة حتى اكتشف إصابته بورم سرطاني في الغدة الليمفاوية جعلته يتقاعد مبكراً ويخسر مصدر رزقه، حتى أصبح عاجزا عن السفر للعلاج واضطر للجوء لإحدى المراكز الطبية الخيرية بشكل دوري شهرياً داخل البلاد ليتلقى العلاج اللازم .
خلال تجولنا في قرية النشوة احصينا إصابة قرابة 100 شخص بالأمراض السرطانية عبر من التقيناهم ومعرفتهم بإصابات الناس المحيطين بهم فقط .
ولمعرفة كيف تحدث الإصابة بالسرطان فوفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، يتم حرق الغاز عندما تقوم شركات الوقود الأحفوري بإشعال غاز الميثان الفائض من عمليات النفط بدلاً من حفظه في الأنابيب، وعند حرقه ينبعث في الغلاف الجوي هذا الغاز القوي الذي يعتبر أكثر تأثيراً بــــ 80 مرة على الاحترار العالمي من ثاني أكسيد الكربون ويؤدي استنشاق الإنسان له للإصابة بالسرطان، ولعل هذا ما جعل نسب التلوث في هواء البصرة تصل إلى أكثر من 68 % بنهاية عام 2023 وفقا للأرقام المعلنة من قبل مفوضية حقوق الإنسان في البصرة، ويجعلها تحصل على تصنيف 118 "غير صحي" وفقاً لمؤشر قياس جودة الهواء عاليماً .
وتُظهر خرائط قدمتها جهات حكومية ونيابية مكونة من الإدارة المحلية للمنطقة والمحافظة وممثليها في مجلس النواب العراقي، عدد الإصابات السرطانية في قرية النشوة خلال العام 2022 إذ وصلت لقرابة 400 شخص على طول وعرض القرية، كما تُظهر الخرائط إن انتشار الأمراض السرطانية تقع في جميع النقاط المحاذية للحقول النفطية.
شركات حقل مجنون
البداية كانت مع حقل مجنون والذي بلغ احتياطه النفطي في 2013 وفقاً لإحصائيات وزارة النفط العراقية، 38 مليار برميل، وبذلك يعد من الحقول العملاقة في العالم لما ينتجه يوميا ويقدر بـ 100 ألف برميل يوميا ، هذا قبل أن تصل الكلفة التطويرية للحقل من أجل زيادة إنتاجه إلى 2 مليار دولار وينعكس هذا على طاقته الإنتاجية لتصل إلى 400 ألف برميل نفط يوميا في 2019.
في 2009 تم منح عقود الخدمة الفنية لتطوير الحقل لشركتي رويال داتش شل البريطانية بنسبة 45 %، وشركة "بتروناس" الماليزية بنسبة 30 %، وتخلا كلاهما عن حصتهما في الحقل بالتفاهم مع وزارة النفط العراقية في 2017 لتصبح الإدارة كاملة في يد شريك الدولة العراقية شركة "نفط البصرة".
الحالات المتضررة في قرية النشوة و السابق ذكرها لم تكن الأولى وربما لن تكون الأخيرة، فهناك العديد من المخاطبات الموجهة من المتضررين للجهات المعنية، والتي بدأت من مدير الناحية ثم انتقلت إلى أعضاء في مجلس النواب العراقي ومنها إلى محافظ البصرة والذي حولها إلى الأمانة العامة وتؤكد اعتراف صريح بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان لأبناء القرية بسبب وجود حقل مجنون النفطي بالقرب منهم وحدوث العديد من الوفيات مع المطالبة باعتبار القرية منكوبة وتعويض أهلها جراء ما حصل معهم أو تعيين أبناء المتوفين والمصابين في وظائف حكومية.
وعلى الرغم من هذا الكم من المخاطبات الرسمية إلا وأننا وحتى كتابة هذه السطور لم نلتق بمواطن من القرية توصل إلى تسوية مع أي جهة حكومية أو أخرى خاصة ممثلة للشركات النفطية تعويضاً عما لحق بهم من أضرار .
ولم يُقدم لهم خلال السنوات الأربعة الماضية سوى مبلغ دُفع لمرة واحدة من قبل إدارة الناحية قدره 500 الف دينار عراقي (قرابة 300 دولار أميركي ) وفق شهادات أبناء القرية الذين التقينا بهم ، بينما يؤكد الكثير منهم أن أعداد الإصابات ارتفعت وكذلك أعداد الوفيات مع غياب الدعم والرعاية أو التعويض وإيجاد الحلول للموت المنبعث عن الحقل النفطي المحاذي لهم.
شروط السلامة البيئية حبر على ورق
سعد الجبوري مدير المنظمة الألمانية لحقوق الإنسان في البصرة يقول لأخبار الآن، أن الجهات الحكومية ومن ثم الخاصة العاملة في الحقول النفطية من المفترض أن تكون ملتزمة بشروط السلامة البيئية العالمية، وهذا من خلال استخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة لفلترة المستخرجات النفطية من كم الغازات السامة المنبعثة أثناء عملية الحرق مشيراً إلى أن هذا لا يتم تطبيقه في الوقت الحالي بالنسبة للشركات العاملة في البصرة .
ويتابع: تزداد نسب الإصابة بالأمراض السرطانية خلال الفترات التي يكثر بها هطول الأمطار، حيث تتفاعل مع هذه الغازات السامة وتسقط في شكل أمطار حامضية تمتصها التربة والزرع وتصل إلى الحيوانات ومياه الشرب ومنهم إلى الإنسان مما يؤدي إلى تفاقم الوضع.
البصرة تنزف نفطاً ودماً
من شرق البصرة الى شمالها، حيث لا يختلف الحال كثيراً، فالموت نفسه تخلفه حقول النفط لأبناء القرى الساكنة بجوارها، بعدما أعلن الجهاز المركزى للإحصاء في البصرة عن معدل زيادة الإصابات بالسرطان سنوياً قياسا على الفترة من 2015 وحتى 2021 حيث بدأت بأكثر من 1900 إصابة حتى وصلت إلى 2858 إصابة من إجمالي إصابات السرطان في العراق وهذا على عكس ما كشفت عنه مفوضية حقوق الإنسان في البصرة والتي أقرت أن عدد المصابين في البصرة تجاوز 9000 مصاب سنويا ، وكذلك ما أعلن عنه مركز الأورام السرطانية في البصرة بنهاية عام 2022 الماضي، بأنّ المحافظة تسجّل سنوياً 2300 إصابة جديدة بالسرطان نتيجة التلوّث البيئي، أي 78 إصابة لكلّ 100 ألف من السكان، وأنّ الزيادة السنوية المتوقّعة للإصابات في المحافظة 10% .
" الحقول تحتاج حقنها بالماء الحلو وهو ما يستنزف ماء البصرة أيضاً والتي دائما ما عانت من شحة المياه الحلوة الصالحة للشرب، وبالتالي هي حرب تستنزف الأرض والبشر"
ولكن على الرغم من تضارب الأرقام وعدم وجود إحصاء دقيق إلا أن معاناة البسطاء تبقى واحدة تبحث عن حل لها، الناشط البيئي ناصر شمارة يرى بأن البصرة أصبحت مدينة غير آهلة للعيش ، فهي تختنق بانبعاثات الحقول النفطية التي تملأها طولاً وعرضاً ، مؤكداً أن الوفيات جراء الإصابة بالسرطان والأمراض الأخرى الناجمة عن تلك الانبعاثات في تصاعد مستمر ورغم اعتراف الحكومة بذلك لكن لا أحد يتحرك لإيقاف الدمار الذي لحق بأرض البصرة وماؤها وأبنائها.
وأشار شمارة إلى أن هناك حرب جديدة فُرضت على البصرة قتلت أضعاف ما عاشته خلال حروب إيران والخليج تتمثل بقتل انبعاثات حقول النفط لأهلها وما تسببه لهم بيئياً، موضحاً أن تلك الحقول تحتاج حقنها بالماء الحلو وهو ما يستنزف ماء البصرة أيضاً والتي دائما ما عانت من شحة المياه الحلوة الصالحة للشرب ، وبالتالي هي حرب تستنزف الأرض والبشر.
واتفقت معه ظافرة طعمة، رئيس القسم الفني في دائرة حماية وتحسين البيئة بالمنطقة الجنوبية ، قائلة أن معدل الزيادة السنوية للإصابات السرطانية المختلفة داخل محافظة البصرة هي 2000 إصابة ، والسبب الرئيسي في ذلك هو محارق النفط التي يمتد تأثيرها للأمراض الصدرية والتنفسية والعصبية والفشل الكلوي .
الانبعاثات السامة لحقل "نهر بن عُمر" تهدد حياة 4000 مواطن
قرية نهران عُمر تعيش المأساة نفسها
مأساة أخرى يعيشها أهالي قرية نهران عمر الواقعة شمال البصرة على بعد 25 كم، عن مركز المدينة ويقطنها قرابة 4000 شخص ويمتهن أغلبهم الزراعة بعدما ظنوا أن ثمارها ستكون ملاذهم الآمن للعيش وكسب الرزق قبل أن تتسلل المواد السرطانية لتربتها ويتعايش الأهالي لسنوات مع الموت القادم من حقل "نهر بن عمر" الواقع بمحاذاة القرية وأحد أكبر الحقول في المحافظة، والذي تم اكتشافه سنة 1948.
في البداية كان يُعتقد أنه جزء من حقل مجنون ، ثم تبين أنه منفصل وبدأ الإنتاج منه سنة 2008 ، باعتباره حقل هيدروكربوني يُنتج غازاً طبيعاً مصاحباً لنفط خام، ويبلغ احتياطي حقل بن عمر مليار برميل نفط، واحتياطي الغاز 780 مليار متر مكعب ، وفي نهاية 2023 أقر مجلس الوزاراء العراقي تنفيذ مشروع تطوير غاز حقل "نهر بن عمر" وفق مبدأ " بناء وتملك وتشغيل ونقل ملكية " لمدة 15 عام ، حيث تم توقيع اتفاقية ما بين شركة غاز الجنوب، التابعة لوزارة النفط العراقية تحديدا شركة نفط البصرة الشريك الحكومي، وشركة غاز الحلفاية، وهي جزء من مجموعة "ربان السفينة"، المطوّر العراقي بقطاع الطاقة والنفط والغاز، ومجموعة من الشركات الأمريكية وهي "كي بي آر" (KBR)، و"هوني ويل" (Honeywell)، و"بيكر هيوز" (Baker Hughes)، و"إيميرسون" (Emerson)، و"جي إي" (GE).
"صادق" تبخر حلمه برؤية ابنه في الجامعة
عشرات الإصابات تُسجل بالسرطان والأمراض التنفسية الأخرى وخلال السنوات الأخيرة الماضية سُجل ارتفاع ملحوظ بأعداد الإصابات بالسرطان، وتظهر الصور الجوية التي التقطناها للقرية سماء يملؤها سموم الغازات المنبعثة فوق القرية والتي فتكت بناسها و دوابها و أرضها كما يقول من التقيناهم .
في باحة منزله يجلس صادق طاهر متأملاً شعلات الغاز المحترقة وأدخنتها السامة المنبعثة من حقل نهر بن عمر لتملأ سماء قريته، ينظر إليها متحسراً على فراق ابنه البكر جعفر والذي توفى إثر إصابته بالسرطان. كان ابن صادق طالب في المرحلة الثانوية يتشوق والده لرؤيته بالجامعة وبينما كان ينتظر الفرحة الكبرى فُجع بنبأ إصابة ابنه بسرطان الدم الذي لم يمهله سوى شهرين من الزمن ليرحل بعدها تاركاً غصة في قلب أبيه الذي بقى وحيداً بصحبة شعلات النفط التي تبث سمومها في سماء القرية وتربتها.
يقول صادق: اجتمعت بصحبة 60 مصابا آخرين من القرية وراجعنا كافة الدوائر والجهات المسؤولة لإيجاد حل أو الحصول على تعويض ولكن دون أي أمل .
مُبيناً أن ما حصلوا عليه من تعويض بلغ 500 ألف دينار أي (335$) وهو لا يكفي كثمن حقن العلاج من السرطان والتي يتراوح سعرها ما بين 500 - 2250000 دينار عراقي، " 300 - 1500" دولار ، مؤكدا أن أحد أصدقائه من المصابين بالسرطان دفع مليونين وربع المليون دينار قبل أيام مقابل حقنة العلاج متسائلاً هل أن ثمن حياة ابنه الشاب تساوي 300 دولار فقط بنظر الشركات؟ مُطالباً بتخليص قريته المنكوبة جراء عمليات الاستخراج والحرق التي نشرت الوباء بين سكان القرية على مدى أكثر من عشرين عام .
إخفاء العقود والخروقات
كثرة الإصابات بالأمراض السرطانية والأخرى المتنوعة، الناجمة بشكل مباشر عن العمل في الحقول النفطية المُستغلة من قبل شركات أجنبية دفعتنا لمحاولة التعرف على طبيعة العقود الموقعة ضمن جولات التراخيص لكن اصطدمنا بعدم إفصاح الحكومة عن تلك العقود رغم انضمام العراق لمبادرة الشفافية الدولية للصناعات الاستخراجية التي تلزم الإفصاح عن العقود المرتبطة بتلك الصناعات ومنها النفط.
وأجرت السلطات العراقية بين 2009 و2018، خمس جولات تراخيص لحقول النفط والغاز، شاركت فيها شركات عالمية، وفق محمد رحيم الربيعي، عضو مجلس الأمناء في هيئة الشفافية للصناعات الاستخراجية في العراق، الذي أكد في الوقت نفسه، أن بعض أوجه الفساد تشوب عقود هذه الجولات وأولها عدم الإفصاح عن عقود الجولات رغم مرور خمسة عشر عام عليها.
وتمثل الهيئة، التي يعمل بها الربيعي، العراق لدى مبادرة الشفافية الدولية في الصناعات الاستخراجية، منذ انضمام بغداد لها في 2009 ، وفي الوقت الذي لم يلتزم فيه العراق بالإفصاح عن تفاصيل العقود التي أبرمتها حكوماته المتتالية مع الشركات العالمية، تلتزم الهيئة بمراجعة وإعداد عقود جولات التراخيص كل عام وتنشرها المبادرة في تقاريرها السنوية.
ويقول الربيعي: إن العراق يمتلك 73 حقلا للنفط والغاز، موزعة بين خمس شركات نفط حكومية تتولى مسؤولية تطوير حقول النفط والغاز في المحافظات التي تعمل فيها. أما بقية الحقول الأخرى، فتتولى شركات النفط العالمية تشغيلها بموجب عقود الخدمات في جولات التراخيص التي أقامتها الحكومة الاتحادية العراقية .
وتشمل العقود (الخدمات الفنية، وخدمات التطوير والإنتاج، وخدمات تطوير الاستكشاف، وخدمات تطوير وإنتاج الغاز). بينما تشمل الشركات (بريتش بتروليوم، الواحة للنفط، وشركة إيني، وإكسون موبيل، بتروتشاينا، و شل، وبتروناس، وتوتال). وبموجب عقود الخدمات، تصبح شركة النفط الدولية "مقاولاً" لإحدى شركات النفط الاستخراجية الوطنية الخمسة وهي: (نفط البصرة، نفط الشمال، نفط الوسط، نفط ميسان، نفط ذي قار)".
المنافع المجتمعية ..الحاضر الغائب
ويشير "الربيعي" إلى أن واحدة من أكبر عمليات الفساد في تلك العقود تتمثل بأموال المنافع الاجتماعية التي تصل لخمسة ملايين دولار سنوياً، تم تعديلها في العام الماضي لتصبح 10 مليون دولار لكل عقد، تقدمها شركات النفط العالمية العاملة في الصناعات الاستخراجية إلى سكان المناطق المحيطة بحقول النفط التي تتأثر سلبا بأنشطة الاستخراج.
وتهدف هذه المساهمات إلى تحسين مستوى المعيشة والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمناطق المتأثرة مشيرا إلى أن تلك المبالغ في العقود تخصص للصرف على المجالات التالية: 40% للصحة 40% للتعليم و20% للأضرار البيئية. وهذا وفقا للقرار الوزاري رقم 139 بتاريخ 23 ديسمبر 2013 والذي ينص ويشترط على شركات النفط العالمية العاملة في الحقول العراقية بدفع مبلغ سنوي يصل إلى خمسة ملايين دولار عن كل عقد خدمة ، كمنفعة إجتماعية للمناطق المحيطة بالحقول و الرقع الاستكشافية التي تعمل فيها .
لكن وبحسب "الربيعي" لا توجد رقابة أو تبويب صرف لتلك المبالغ ولا يتم صرفها لما خُصصت إليه في ظل عدم التزام تلك الشركات أو رقابة حكومية لتنفيذ الأمر وتعويض الأهالي في المناطق المحيطة بالعمل منوهاً إنها أحياناً تُصرف على أمور أخرى مثل تأهيل مركز شرطة أو مَحكمة أو أبنية عائدة لجهات حكومية دون صرفها وفق الضوابط المُخصصة لها لإيقاف معاناة الناس هناك صحياً وبيئياً.
ويُظهر التقرير الأخير لمبادرة الشفافية والذي ناقش جانب المنافع الإجتماعية لعام 2017، -حصلنا على نسخة منه- عدم التزام الشركات العالمية بصرف المنافع الاجتماعية أو صرف أجزاء قليلة جداً على أمور ثانوية ومبهمة دون اتخاذ إجراء حكومي .
على سبيل المثال قدمت شركة "شل" التي عملت على تطوير حقل مجنون حينها والذي تحدثنا عن الإصابات السرطانية الكبيرة للسكان القريبين منه، 92 ألف دولار، لمنظمة خيرية فقط دون بناء أو تطوير القطاعات الصحية والبيئية.
أما شركة "بتروناس" الماليزية والتي عملت أيضاً في الحقل خلال الفترة من 2009 وحتى 2018 ، فلم يُدرج اسمها ضمن قائمة الشركات التي قدمت المخصصات المالية اللازمة للمنافع الإجتماعية ، وبناء عليه تواصلنا مع الشركة عبر البريد الإلكتروني لمعرفة ما الذي قدموه للأهالي خلال فترة عملهم في الحقل فكان الرد : "نحن لا يمكننا الإجابة على هذا السؤال لقد انتهت فترة عملنا في الحقل لصالح شركة نفط البصرة ويمكن الرجوع لهم وهذا رد بالنسبة لنا يعني أن الشركة قضت كل هذه السنوات دون تسديد أموال المنافع الإجتماعية ولم تقم بأي شيء يخدم المواطنين.
كما أشار التقرير إلى عدم الإلتزام من أغلب الشركات بذات الأمر لتؤكد ما توصلنا إليه وهو عدم ذهاب تلك المنافع للمساهمة الفعلية التي وُجدت لأجلها في إيقاف الإصابات بالأمراض وتحسين الواقع البيئي للمناطق المتضررة .
أين تذهب أموال المنافع المجتمعية ؟
"لا يتم توزيع المنافع الإجتماعية التي تقدمها الشركات النفطية العاملة في البصرة بصورة صحيحة ، أو حتى ترتيبها حسب أهميتها وحاجة السكان لها، فلا يُعقل إنه في الوقت الذي يشكو فيه الناس من كم الإصابات السرطانية تقوم الشركات بإنشاء ملاعب رياضية بدلاً من مستشفى أو مركز علاجي فالسؤال الآن هل نحن بحاجة لملعب الآن أم مستشفى متخصصة بعلاج الأمراض السرطانية؟ والسؤال الثاني أين تذهب أموال المنافع الإجتماعية الخاصة بهذه الشركات على مدار عشرين عام وأكثر منذ 2010 وحتى الآن؟ .. هكذا قدم سعد الجبوري مدير المنظمة الألمانية لحقوق الإنسان في البصرة، مجموعة من الأسئلة المشروعة والتي دفعتنا أيضا للبحث عن إجابات لها على لسان الشركات نفسها أو حتى الجهات الرسمية المسؤولة التي منحتها عقود التطوير.
ولكن الحصول على معلومات حول إدارة العقود النفطية يعد أمرا صعباً ولا يتم الإفصاح عنه بسهولة، فالبعض من الشركات النفطية الأجنبية انسحب وجاء آخر محله بينما دخلت شركات جديدة لم يتم الإفصاح عنها وهذا الأمر دفعنا للتواصل مع مصدر رفيع داخل حقل مجنون للرد على اسئلتنا ولكنه رفض الإفصاح عن اسمه ذاكراً تفاصيل تُنشر لأول مرة .
أكد المصدر أن شركتي "شل" و"بتروناس" العاملين بحقل مجنون انسحبتا من الحقل في ٢٠١٧ لتتحول الإدارة إلى الجهد الوطني وتحديدا شركة نفط البصرة لكن الحقيقة أن هناك تعاقد آخر حصل مباشرة مع شركة انتون اويل وهي شركة صينية لادارة المنشآت في الحقل وشركة أمريكية لبناء المنشآت وضمن تلك العمليات يدخل مسؤولية الإنتاج وبذلك تكون الإدارة العامة للجهد الوطني أما الإدارة الداخلية فهي للشركتين الأجنبيتين رغم ملاحظات المصدر نفسه على الشركتين وعملهما.
وحول المنافع الاجتماعية قال بأن مشاريعه مستمرة وبشكل دوري في بناء مراكز شرطة ومراكز صحية ومدارس قبل وبعد انسحاب شل وبتروناس وعند سؤاله عن اهمية بناء مركز شرطة ومحكمة للمتضررين بدلاً من إنشاء مركز علاجي لهم ، رد بأن المنافع تُقدم بناء على احتياجات المجتمع المحلي وهو من يتقدم بطلبات لما يراه مهما للشروع به .
ونفى المصدر في الوقت نفسه أن يكون الحقل سبباً في التلوث البيئي مؤكداً أنهم يستخدمون أحدث التقنيات لعزل الكربون و حرق الغاز المصاحب لمنع تسبب التلوث مشيراً الى قيامهم بفحوصات دورية للهواء والتربة لضمان عدم التلوث ومؤكدا أنه وخلال 10 سنوات لم تسجل أي من تقارير الفحوصات وجود تلوث .
وبعد مطالبتنا بأن يكون هناك حلول لمعالجة مرضى السرطان في المناطق القريبة من الحقول كنموذج حقل مجنون قال المصدر: هناك مشروع متكامل لبناء مستشفى ضخم لمعالجة مرضى السرطان سعته 200 سرير تشرف عليه شركة ألمانية وسيتم تجهيزه بكل الاحتياجات والأدوات اللازمة والشروع ببناءه في أقرب وقت ممكن.
غياب عقوبات وزارة النفط يُهدد حياة أهالي البصرة
ومن جهتنا تواصلنا مع وزارة النفط العراقية وهي الجهة المنوط بها هذا الملف ، لمعرفة أين تذهب أموال المنافع المجتمعية وما الإجراءات التي يتم اتخاذها في حالة عدم التزام الشركات العالمية بشروط السلامة البيئية، في البداية أشار "عاصم جهاد" المتحدث باسم الوزارة أن شركات النفط العالمية التي تتواجد في العراق هي شركات مقاولة بواقع عقود جولات التراخيص التي أعلن عنها العراق خلال السنوات الماضية. وتنفذ خطط الوزارة في تطوير الحقول النفطية وتدار الحقول النفطية بإدارة مشتركة من العراق ومن هذه الشركات.
ونفى "جهاد" أن تكون هناك علاقة بين انبعاثات تلك الحقول الناجمة عن عمل الشركات وزيادة عدد الإصابات السرطانية في الكتل السكنية بالبصرة على الرغم من التقارير الطبية والبيئية التي أكدت ذلك بل أرجع إحدى مسببات الإصابة بالسرطان لحرب الخليج واستخدام اليورانيوم المنضب الذي يبقى تأثيره الملوث فى الماء والهواء لعشرات السنين ، قائلاً: بالتأكيد انبعاثات الغازات الناجمة عن العمليات النفطية بالتأكيد هي ملوثة للبيئة لكن هذه الشركات تعمل وفق لبنود متفق عليها في العقود تتعلق بإتباع اشتراطات السلامة البيئية وكثرة الحديث عن الإصابات بالسرطان وعلاقتها بالانبعاثات فهذا وبحسب أطباء لم يًثبت بطريقة علمية صحيحة.
وأضاف: والدليل على ذلك إن هناك مدن ومحافظات أعلى في معدلات الإصابة بالسرطان عن البصرة وهذا يوضح علاقة النفط بالمواطنين، وأيضا بعد 2003 كان هناك بعض التجاوزات من قبل الأهالي عقب الظروف التي عاشها العراق، حيث قاموا بالزحف بالقرب من الحقول النفطية وبالنسبة للإجراءات التي قامت بها وزارة النفط فتم زيادة أموال المنافع الإجتماعية في كل عقد ويتم صرفها على دعم المجتمعات القريبة من الحقول النفطية بالتنسيق مع المحافظة أو الإدارة المحلية وبالنسبة للخطوات التي قامت بها وزارة النفط خلال السنوات الماضية فتم دعم مستشفيات الأمراض السرطانية في محافظة البصرة وتجهيزها بأحدث الأجهزة المتقدمة للكشف المبكر.
كاشفاً عن أن هناك تقليص لنسبة حرق الغاز واستثماره بنسبة تصل إلى 65% وهذا عامل تقدم ونأمل أنه في عام 2028 توقف حرق الغاز ويتحول إلى غاز نظيف .
ولكن باطلاعنا على تقارير هيئة الشفافية المُكلفة بمراجعة العقود ومراجعة التراخيص الخاصة بشركات النفط العاملة في حقول البصرة من أصل 19 عقد لشركات أجنبية في 19 موقع خمسة فقط بتقديم معلومات النفقات الإجتماعية والتي لم تتجاوز في أفضل حالاتها نصف المبلغ المُخصص.
وبمجموع الحقول الــ19 فإن المُنفق لكل الحقول وفق التقرير، على النفقات الإجتماعية كان9 ملايين دولار و748 ألفاً، من أصل 95 مليون دولار المفروض تُقدم من المواقع.
كذلك يكشف التقرير أن خمس شركات أعلنت صراحة إنها لم تقدم أي نفقات إجتماعية
فيما بلغت قيمة إيرادات الاستخراجات النفطية في ذلك العام 66 مليار و667 مليون دولار.
وبالسؤال عن الإجراءات المتبعة مع تلك الشركات وإن كان تم إيقاف التعامل معها قال جهاد، إذا كانت هذه الشركات مشمولة بتخصيصات المنافع الاجتماعية، فإنها مُلزمة الإيفاء بالتزاماتها، وفي حالة المخالفة يتم حل الأمر "بالحوار والتفاهم" علماً بأن دعم سكان المدن أو المناطق القريبة من الحقول النفطية لايقتصر على تخصيصات المنافع الإجتماعية فقط وإنما، هناك تخصيصات مالية كبيرة للمشاريع الخدمية والصحية والبيئية والتعليمية والبُنى التحتية في الموازنات السنوية للمحافظات المُنتجة للنفط والغاز ، إلى جانب توفير فرص العمل، والمراكز التأهيلية للعاطلين عن العمل وللشباب.
تصريحات "جهاد" حول سبل إنفاق المخصصات المالية جاء عكس ما وجدناه على أرض الواقع تحديداً في قرية "النشوة" التي لم يقر أحد سكانها عن تعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم أو حتى توفير فرصة عمل لهم .
كما أن عدم توقيع عقوبات صارمة على الشركات المخالفة واقتصار الأمر على "الحوار والتفاهم"، يفتح الباب أمام مزيد من التجاوزات ويبقى في النهاية المواطن البسيط هو الضحية في حرمانه من أبسط حقوقه وهي توفير رعاية صحية لازمة له .
ومن جانبنا تواصلنا مع شركة نفط البصرة باعتبارها الجهة الحكومية المسؤولة عن إدارة حقلي نهر عمر ومجنون ووجهنا لها مجموعة من الأسئلة على رأسها ما هي سبل الرقابة على مدى اتباع شركات النفط العالمية لشروط السلامة البيئية وما الذي حققته تلك الشركات من منافع إجتماعية للأسر المتضررة وما الإجراءات المتبعة في حالة المخالفة ولكن لم يصلنا أي رد من الجهة تلك الجهة المسؤولة حتى وقت كتابة هذه السطور .
كيف ننقذ أهالي البصرة ؟
وفي النهاية تبقى مجموعة من الطلبات العاجلة للمواطنين المتضررين بناء على حديثهم معنا وما كشفنا عنه خلال هذا التحقيق، نضعها أمام صناع القرار من بينهم أعضاء مجلس النواب عن محافظة البصرة علها تساهم في إنقاذ أرواحهم. وتشمل تلك الطلبات الجوانب الصحية والمالية والبيئية وكذلك القانونية وهي كالآتي :
تعويضات مُجزية
منح تعويضات مالية مناسبة للأسر المتضررة، وتوفير فرص عمل للمتضررين في المشروعات البيئية والتنموية . و تحسين البنية التحتية من توفير مياه شرب نظيفة وخدمات صرف صحي جيدة للقرى المتضررة .
عقوبات صارمة
التقيد بإجراءات وزارة البيئة من فرض ضوابط صارمة على انبعاثات شركات النفط وعدم الاكتفاء بالتحذيرات والغرامات للشركات المخالفة.
التنفيذ الحقيقي لمشاريع المنافع الاجتماعية،صرف مبالغها المرصودة كاملة على المشاريع الصحية والبيئية التي تقلل من أضرار التلوث.
مراكز علاجية
إنشاء مراكز علاجية ومُستشفيات مُجهزة بالأدوات والطواقم الطبية المتخصصة في علاج أمراض الصدر والسرطانات وقريبة من محل سكن المواطنين المتضررين . والتعجيل ببناء مستشفى قرية النشوة التي وعدنا مسؤول حقل مجنون بتشييدها .